الأب ألبر حبيب عساف
كثيرًا ما نرى الحقوق تُهدر، والناس تغرق في الظلم، بينما تسود شريعة الغاب فتُختزل العدالة في منطق القوة، لا قوة المنطق. في وطن بات فيه “التاجر” – بمعناه الرمزي – يرزح تحت أوزار الموت المتعدد الوجوه، وتعلو فيه راية الفاجر الذي لا يعرف للكرامة وجهًا ولا للحق وزنًا.
لقد دعت شرعة حقوق الإنسان إلى الكرامة والعدالة، إلى حق الإنسان في الطعام والعمل، في الصحة والسكن، في الزواج والعيش الكريم… لكن هذه الحقوق، شيئًا فشيئًا، تحولت إلى شعارات فارغة، ومطايا لمصالح الأبواق الوصولية، وأعلامًا تُرفع باسم الالتزام وهي في الحقيقة تُستخدم للتزييف. وهكذا، مات الوطن، بينما بقيت الكلمات تلوكها ألسنة لا تعرف طعم الجوع ولا مرارة القهر.
كم هو مؤلم أن نرى المفكر اللبناني، الذي كان من أوائل من نادوا بشرعة حقوق “كل” إنسان، يعيش اليوم في نظام يقتات على الحصص والطائفية والمصالح الضيقة. ميزان مرعب من التوازنات المصطنعة يُرضي كل مجموعة وكل حزب وكل زعيم، إلا لبنان.
ضاع معنى المواطنة في دهاليز البيروقراطية، وانطفأت جذوة الانتماء في زحمة الولاءات المتعددة. لم يعد أحد يأبه بالوطن أو بالمواطن، بل نمت ذهنية “ترتيب الحال” كيفما اتفق، بالإمكانات المتاحة، سواء كانت مشروعة أم لا.
وهكذا بدأ مرض التفكير ينهش جسد الوطن. التعليم أُفرغ من مضمونه، والشأن العام بات سلعة للمساومة، وأما الخاص، فمرتهن لمصالح الأقوياء. الترقيات تُمنح للجهلة، والاحترام يُسلب من المفكرين، والطموح بات تهمة، والإخلاص يُعاقب، والإيمان يُستهزأ به.
لكن، رغم كل ذلك، تبقى المواطنة هي الأمل الأخير. هي ليست مجرد هوية مكتوبة على ورق، بل انتماء حقيقي يُترجم بجهد يومي في مكان اسمه “لبنان” وفي وقت اسمه “الآن” – كما تقول الحكمة الإنجليزية: “The present is a gift”.
بهذه الهوية، التي تُدعى مواطنة، يمكن أن تتحقق منظومة الحقوق. يبدأ لبنان بالتعافي، من المدرسة إلى قمة المسؤولية، حين يعود كل فرد إلى ضميره، ويضع جهده حيث يجب، ويختار الوطن قبل المصلحة.
فلنبدأ، اليوم، الآن، هنا.
لأجل لبنان.
نشر المقال ايضاً في جريدة الحرة ـ بيروت
Comments