*#اسمع_وافهم_الوطني_افعال_لا_اقوال
* المقال يصوّر حالة عامة، وأي تشابه عرضي مع أشخاص أو وقائع حقيقية غير مقصود
بقلم فادي زواد السمردلي
كثيرًا ما يتكرر القول إن السياسة هي "فن الكذب"، وكأن الخداع جزء أصيل من ممارستها فهذا التصور، وإن شاع في الخطاب العام، لا يصمد أمام التحليل الهادئ للتجارب السياسية عبر التاريخ فالسياسة، في جوهرها، ليست فن التضليل، وإنما فن إدارة الممكن وصياغة التوازن بين الحقائق والمصالح فالكذب في السياسة ليس قاعدة بل انحراف، وغالبًا ما يكون علامة على عجز في المواجهة للواقع بشجاعة.
حين يتم اختيار الكذب كأداة للسيطرة، قد يحقق بعض النجاحات المؤقتة وعود تُرضي الجماهير، خطابات تُخفي الإخفاقات، ومناورات تُربك الخصوم ولكن هذه النجاحات قصيرة الأمد، لأنها تهدم الركيزة الأهم في أي منظومة سياسية الثقة فبمجرد أن يكتشف الناس زيف الوعود، تتحول السياسة في أعينهم إلى مسرح للخداع، وينشأ شعور جماعي بالخذلان، يترجم إما إلى عزوف عن المشاركة العامة، أو إلى رفض وتمرد يهددان استقرار المنظومة برمتها.
التجربة التاريخية تقدم أدلة واضحة أنظمة كاملة انهارت لأنها بُنيت على تزييف الحقائق، وحين واجهت أزمات حقيقية لم تجد ما تستند إليه سوى الفراغ فغياب الصدق أفقدها الشرعية وأضعف قدرتها على تعبئة الناس وقت الحاجة وفي المقابل، شهدنا قادة آخرين لم يترددوا في مواجهة شعوبهم بالحقيقة، حتى حين كانت صعبة ومؤلمة فهؤلاء عززوا شرعيتهم، لأن الناس يدركون أن الاعتراف بالواقع، مهما كان قاسيًا، أكثر نفعًا من بيع أوهام سرعان ما تنكشف.
السياسة، في معناها العميق، هي إدارة تعقيدات الواقع، وليست صناعة أوهام للهروب منه فالذي يبني مشروعه على الكذب يربح بعض الوقت، لكنه يضع منظومته على طريق التآكل الداخلي أما الذين يعتمدون على المكاشفة، فإنها تزرع رصيدًا من الثقة يجعلها قادرة على تجاوز العواصف فالصدق في السياسة ليس مجرد قيمة أخلاقية، بل أداة استراتيجية لحماية الاستقرار وضمان استمرارية المنظومات.
ومن زاوية دبلوماسية، فإن الدول التي تمارس الكذب في الداخل تفقد تدريجيًا صدقيتها في الخارج فالتضليل الداخلي ينعكس على صورتها الدولية، ويجعل شراكاتها هشة، لأنها تقوم على انطباع بأنها لا تحترم الحقيقة حتى مع مواطنيها بينما الدول التي تبني سياساتها على الشفافية والمصارحة، تكسب احترامًا خارجيًا ينعكس على قوتها الناعمة ومكانتها في النظام الدولي.
الخلاصة أن اختزال السياسة في الكذب هو تقزيم لها وتشويه لمعناها الأصيل. السياسة ليست فن الخداع، بل هي ممارسة مسؤولية وأخلاقية بامتياز فالسياسي الحقيقي هو من يملك الشجاعة ليواجه مجتمعه بالحقائق، ويقوده بخيارات صعبة نحو الممكن الواقعي، بدلاً من أن يبيعه أحلامًا زائفة أما من يبنون منظوماتهم على الأكاذيب، فإنهم قد يخدعون لحظة من التاريخ، لكنهم يسقطون عند امتحان الزمن، تاركين وراءهم فراغًا وثقة مهدورة.
Comments