بقلم الأب الدكتور البر حبيب عساف
المقدمة
يشكّل القانون الدولي العام المرجع الأساسي لتنظيم العلاقات بين الدول، وهو يقوم على مبادئ راسخة في احترام السيادة الوطنية، وحظر استخدام القوة، وتشجيع التسوية السلمية للنزاعات. هذه المبادئ ليست مجرد توجهات أخلاقية، بل التزامات قانونية وردت صراحة في ميثاق الأمم المتحدة والعديد من الاتفاقيات الدولية ذات الصلة.
تأسيسًا على هذا الإطار، يُنظر إلى كل محاولة لإحلال السلام، سواء من خلال مفاوضات مباشرة أو بوساطة أطراف ثالثة، كحق مشروع ومطلوب في القانون الدولي. وبالتالي، فإن أي عمل يرمي إلى إفشال تلك المسارات يُعدّ مساسًا جوهريًا بالسلم الدولي.
أولًا: القواعد القانونية الدولية الناظمة للسلام بين الدول
أقرّ المجتمع الدولي، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، مجموعة من الوثائق القانونية التي تهدف إلى منع الحروب ووضع أسس دائمة للسلام، أبرزها:
ميثاق الأمم المتحدة (1945):
ينص في المادة الثانية، الفقرة الرابعة، على ما يلي:
> "يمتنع جميع أعضاء الهيئة في علاقاتهم الدولية عن التهديد باستعمال القوة أو استخدامها ضد سلامة الأراضي أو الاستقلال السياسي لأي دولة..."
إعلان مبادئ القانون الدولي المتعلقة بالعلاقات الودية والتعاون بين الدول (1970):
يؤكد على أن تسوية النزاعات يجب أن تتم بالوسائل السلمية فقط، ويحظر التدخل في الشؤون الداخلية للدول.
اتفاقيات جنيف لعام 1949 والبروتوكولات الإضافية:
تشدد على احترام الكرامة الإنسانية، وتحظر شن الأعمال العدائية ضد المدنيين والدول التي لا تشارك في النزاع.
العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية (1966):
يُعزّز الحق في تقرير المصير، ويدين استخدام القوة لتقويض سيادة الدول.
ثانيًا: الوساطة والمفاوضات كحق قانوني للدول ذات السيادة
تنص القواعد العامة للقانون الدولي على أن المفاوضات تمثّل أداة شرعية وأساسية لتسوية النزاعات. وهي ليست فقط مبادرة سياسية، بل حقّ معترف به للدول في إدارة أزماتها بعيدًا عن العنف.
الوساطة الدولية (مثل الدور الذي تلعبه قطر) تمثل شكلًا متقدمًا من ممارسة السيادة السياسية والدبلوماسية، وهي تجد سندًا لها في الأعراف الدولية والممارسات المتكررة في العلاقات الدولية.
أي عرقلة لتلك الوساطة، سواء بالضغط أو بالتهديد أو باستخدام أدوات عسكرية أو دعائية، تشكّل انتهاكًا لحق الدولة الوسيطة وللدول المتفاوضة في إدارة شؤونها الخارجية بحرية واستقلال.
ثالثًا: الموقف القانوني من محاولات إفشال مفاوضات السلام
يُجمع فقهاء القانون الدولي على أن تقويض مسارات السلام لا يمكن تبريره تحت أي ذريعة، لا دفاعًا عن النفس، ولا بذريعة "الأمن القومي" متى تعلّق الأمر بمفاوضات سلمية لا تنطوي على تهديد مباشر.
وبناء عليه: لا يجوز لأي دولة التدخل في مفاوضات تجري خارج أراضيها، طالما لم تشكّل هذه المفاوضات تهديدًا مباشرًا وفوريًا لأمنها.
محاولة ضرب مفاوضات السلام التي تجري بوساطة دولة ثالثة يُعدّ سلوكًا عدائيًا بالمعنى الدبلوماسي، ويقوّض مبدأ حسن النية الذي تقوم عليه العلاقات الدولية.
رابعًا: هل يجوز لإسرائيل ضرب المفاوضات في قطر؟
من منظور قانوني صرف:
لا تملك إسرائيل أي حق قانوني أو سيادي للتدخل في مفاوضات تجري خارج نطاق أراضيها أو مع دول لا تخوض حربًا مباشرة معها.
استهداف هذه المفاوضات أو الوساطة القطرية يُعدّ:
خرقًا لميثاق الأمم المتحدة،
انتهاكًا لسيادة دولة عضو (قطر)،
وتعدّيًا على المسار السلمي الذي يدعمه القانون الدولي وقرارات مجلس الأمن.
علاوة على ذلك، فإن رفض أي فرصة للحوار يدلّ على نيّة مبيتة في عرقلة جهود السلام، ويُفهم ضمنًا كإرادة للاستمرار في التصعيد.
الخاتمة
الرهان على الحرب لم يعد خيارًا مشروعًا في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية. القانون الدولي لا يمنح أي دولة تفويضًا لإفشال مفاوضات أو نسف جهود وساطة تقوم بها دولة ذات سيادة. وإذا كانت بعض الدول ما زالت تسعى لفرض منطق القوة، فإن عليها أن تدرك أن الشرعية الحقيقية تنبع من احترام السلام، لا من تفجيره.
أما فيما يخص إسرائيل، فإن أي محاولة لضرب المفاوضات في قطر لا تمثّل فقط خروجًا عن القانون، بل تعطيلًا متعمّدًا لمسار إنساني طال انتظاره.
* الأب الدكتور ألبر حبيب عساف هو شخصية لبنانية بارزة تجمع بين العمق الروحي والديني والخبرة القانونية، حاصل على دكتوراه في القانون المدني والكنسي من جامعة مار يوحنا اللاتران في روما عام 1999. شغل منصب قاضٍ كنسي لمدة 22 عامًا في أربع محاكم كنسية، ودرّس في الجامعة اليسوعية لمدة 18 سنة مواد قانون العمل والأخلاقيات الحيوية. يُعرف بمواقفه المدافعة عن حقوق الإنسان والحريات الدينية، وهو عضو فاعل في المجلس الدولي لحقوق الإنسان (IHRC) - لجنة الحريات والامن المجتمعي، وناشط في الحوار بين الأديان والعمل الخيري من خلال جمعية رجاؤنا التي اسسها بعد حرب ٢٠٠٦. مُرسل حاليًا في ليبيريا - أفريقيا، وهو من عداد كهنة ابرشية سيدة البشارة المارونية في أفريقيا.
عمل كمنسق لكرمة راحيل في لبنان والشرق الاوسط التي تهتم بشفاءات جراح الإجهاض... أسس فرع جامعة سيدة اللويزة في الشوف مع المصالحة التي أرسى قواعدها المثلث الرحمات غبطة البطريرك مار نصرالله بطرس صفير. يتقن الفرنسية والالمانية والايطالية والإنجليزية والعربية والسريانية، بالإضافة إلى إلمامه باللاتينية واليونانية.
Comments