العملات الرقمية: بين الحقيقة والسراب

12/22/2019 - 10:36 AM

بيروت تايمز

 

 

فؤاد الصباغ*   

 

إن العولمة المالية والرقمية غيرت اليوم من عالمنا الواقعي برمته بحيث أصبح الجميع يسبح في فلك فضاء إفتراضي متكامل الأبعاد والأهداف في أبسط جزئياته. فمما لا شك فيه تعد تلك الطفرة النوعية في عمقها ثورة حقيقية لتكنولوجيات الإتصال والمعلومات وتمثل حدث الساعة البارز بحيث ساهمت بدورها في رسم سمات الحداثة لهذه العشرية مما سمحت الرهان عليها أكثر فأكثر مستقبليا.

فالعالم الإفتراضي لم يقتصر فقط علي بروز التعليم الإلكتروني عن بعد والتجارة الإلكترونية والتسويق الإلكتروني وغيرها بل ضرب مؤخرا في صميم المنظومة النقدية والمالية لتبرز بذلك عملات شبيهة بعالم الخيال تسمي بالعملات الرقمية الإفتراضية Cryptocurrencies  نذكر منها بالأساس عملة البتكوين وهي تعتبر الأهم نظرا للإقبال المكثف عليها بالأسواق المالية العالمية. إذ في هذا السياق يجب تحديد الثوابت والمتغيرات في تلك السياسة النقدية الخاصة بالبنوك المركزية بحيث لا تبني تلك العملات الرقمية الإفتراضية علي الواقع الملموس بل هي مجرد "ثقة مزيفة".

كما يعتبر أخطرها أن تلك المنظومة الرقمية تحولت إلي الرهان علي "الوهم بالثراء" من خلال الشراء والبيع بحيث كثرت في صلبها عمليات الإحتيال والسرقة وغيرها من أساليب الخداع، لأن تلك العملات لا تمثل في حد ذاتها ثقل نقدي، مما تحولها برمتها إلي مجرد تداول إفتراضي يمثل فقاعة عابرة لا أكثر ولا أقل.

البنك المركزي..بنك البنوك

يعتبر البنك المركزي القلب النابض لجميع البنوك والشريان الحيوي الذي يضخ لهم السيولة المالية وينشط حركية الأموال بالأسواق. فكل دولة من دول العالم لها بنك مركزي ولوإختلف التسميات من إحتياطي مركزي أوخزينة مركزية، إلا أن الضوابط النقدية تعتبر نفسها وهي تختزل بالأساس في السياسة النقدية التي تحدد آليات العمل وتنظم المنظومة النقدية والمالية. فبالعودة إلي الإحتياطي النقدي لكل بنك مركزي الذي يقوم بربط معاملاته المالية والتجارية مع الفضاء الخارجي ويشكل له تغطية مركزية نجد سلة العملات الأجنبية بالتحديد منها "الدولار واليورو" كعملات أساسية في الأسواق المالية وأيضا الذهب والفضة. أما الأهم من كل ذلك فهي تتمثل في أساسيات عمل كل سياسة نقدية لكل بنك مركزي بحيث نجد منها من يراهن علي إستقرار الأسعار ومعدل تضخم قار ونجد البعض من يراهن علي الثقل النقدي والبعض الآخر علي "التحويلات المالية".

إذ هنا يكمن مربط الفرس بحيث تتجلي الخطورة النقدية لأنه لا يوجد في تلك البنوك المركزية رهان حقيقي علي العملات الرقمية في المعاملات المالية الرسمية والتي تعتبر ضربا من الخيال في الأسواق المالية نظرا لإرتهانها لعدم الواقعية في التداول والبناء علي مجرد وهم خيالي لا يمثل في حد ذاته واقعا ملموسا في المنظومة النقدية.

فهنا بالنتيجة تغيب الشفافية والمصداقية غيابا كليا لتترك المجال بذلك إلي المستثمرين والمضاربين في تنفيذ عمليات الشراء والبيع لتلك العملات الرقمية الإفتراضية في الأسواق المالية بدون ضوابط قانونية مركزية. إذ البعض يسأل ما هو الفرق بينها وبين بقية الأموال؟ الإجابة بسيطة "فقيمة" تحويلات تلك العملات "غير محددة" علي القاعدة النقدية وعلي النقد المركزي وغير "مضبوطة" بالتحويلات مع الذهب والفضة أو الدولار واليوروبل هي مجرد "شراء وبيع وهم" غير واقعي بحيث لا يوجد لها قيمة في منظومة البنك المركزي.

فعلي الرغم من طرح البنك المركزي الصيني مؤخرا لعملة رقمية إفتراضية خاصة به، إلا أنها لا تعتبر عالمية في المعاملات المالية أوتمثل إحتياطي نقدي رسمي ملموس علي أرض الواقع. فإجمالا تختلف الأمور جذريا فالنقود الواقعية تتوزع إلي قطع نقدية وورقية وأيضا إلي تحويلات في حسابات بنكية وصكوك وغيرها وإلي نقود إلكترونية مثل البطاقات الذكية وحسابات الباي بال ونتلار وسكيلار.

بالنتيجة تمثل مجملها النقود الواقعية الملموسة بالبنك المركزي الذي يمثل بدوره بنك البنوك والذي يوفر السيولة اللازمة إلي الأسواق المالية لتنشط عمليات التداول عبر البيع والشراء لعملات العالم الواقعي في الأسواق المالية، لكن العملات الرقمية الإفتراضية تعتبر دخيلة وليس لها ثقل نقدي في التحويلات بين الواقع والإفتراضي. كما أن تلك العملات "غير مضبوطة ولا تحمل صبغة شرعية" بقواعد المنظومة النقدية بحيث تعتبر في مجملها سراب نظرا لكثرتها وتمثل حقيقة فقط للمستثمرين بها اللذين خلقوا لأنفسهم أسواق مالية إفتراضية موازية ومستقلة عن العالم الواقعي.

فقاعة عابرة

شهدت الأسواق المالية خلال هذه العشرية جنونا حقيقيا من خلال الإقبال المكثف علي التداول بالعملات الرقمية الإفتراضية وذلك بشكل غريب ورهيب خاصة بين سنة 2016 و2018 نظرا للأرباح الطائلة المسندة عبر نسبة الفوائد. لكن في المقابل لا يمثل الإستثمار في تلك العملات واقعا ملموسا بل تتم العملية كلها عبر الشراء عن بعد "لرموزا" لقطع نقدية إفتراضية لا توجد بالإحتياطي المركزي وغير محددة سلفا بالسياسة النقدية وبالضوابط الشرعية والقانونية، مما تكثر بالنتيجة في صلبها عمليات النصب والإحتيال. فالرهان علي تلك العملات خاصة منها Bitcoin، Onecoin، Litcoin يعتبر في جوهره شراءا لوهم إفتراضي بعيدا عن أرض الواقع ولوأنها تحقق في تلك الأرباح "المشكوك فيها" لأنها تضع تلك التنزيلات المالية في كومة من النقود ثم تبيع تلك العملات وبعد ذلك تتم عملية إعادة توزيعها علي أولئك المستثمرين بطريقة مشابهة كثيرا لشراء السندات أو أيضا لما يعرف ب MLM أو الشبكات الإفتراضية في توزيع الأرباح بدون الإلتزام بقواعد السياسة النقدية وواقعيتها التطبيقية بالبنوك المركزية. بالتالي يجعل من تلك الأسواق المالية التي تتداول بتلك العملات الرقمية مجرد فقاعة عابرة.

بالتالي تحتاج تلك الأسواق المالية لإجراءات ملموسة من قبل البنوك المركزية قصد "إضفاء عليها الشرعية والقانونية وضبطها بقواعد مركزية" حتي تتم عملية إدخال عليها نوعا من الواقعية علي غرار الإجراءات الأخيرة المتخذة من قبل البنك المركزي الصيني الذي أصدر عملة رقمية خاصة به في معاملاته بالأسواق المالية.

كاتب تونسي و باحث اقتصادي دولي

 

 

Share

Comments

There are no comments for this article yet. Be the first to comment now!

Add your comment