بقلم الدكتور لويس حبيقة
الحكم مسؤولية والنتائج لا تقيم فقط بالأرقام، وانما بحسن اتخاذ القرارات في المحتوى والتوقيت. لا تكمن المشكلة عموما في اختيار السياسات الاقتصادية الصحيحة، انما ربما وأهم منها في اختيار التوقيت المناسب كي تكون فعاليتها كبيرة. سياسات صحيحة في توقيت خاطئ تعطي نتائج سلبية ربما عكس ما يشتهيه واضعوها. المبادئ السياسية الاقتصادية مهمة لكنها غير كافية اذا سوقت عبر رسائل غامضة لا تحترم مشاعر المواطن. فالمواطنون لا يقيمون فقط صحة السياسات المتبعة، وانما أيضا الخط الاقتصادي الاجتماعي العام الذي تسير عليه الحكومة.
المواطن يكره أو يرفض اجمالا تغيير السياسات 180 درجة اذ يعطي ذلك انطباعا أن الفريق الحاكم غير جدي وغير كفؤ حتى لو كان التغيير مبررا عقائديا. تغيير السياسات رأسا على عقب يسبب عموما في الدول الديموقراطية رحيل الفريق الحاكم وترك المجال لفريق آخر للحكم، تماما كما حصل في بريطانيا والهند والبرازيل وغيرها.
من الأمثلة الكبيرة لأهمية التوقيت في تنفيذ السياسات الاقتصادية هي تجربة "ليز تراس" الحكومية في بريطانيا في 2022 والتي لم تدم أكثر من 45 يوما. كيف كانت أوضاع بريطانيا في تلك الفترة؟ كان التضخم مرتفعا عالميا وليس فقط في بريطانيا. كان النمو بطيئا ليس فقط في بريطانيا وانما أيضا في العالم أجمع. أما القاعدة الانتخابية كما القاعدة السكانية البريطانية فكانت قلقة على أوضاعها العامة قبل بداية فصل الشتاء بسبب عدم توافر كميات المحروقات وبسبب الأسعار المرتفعة.
عانى الاقتصاد البريطاني عموما من خطأ الخروج من الوحدة الأوروبية أي البريكسيت. كانت الانتاجية العامة متدنية لأسباب اجتماعية قانونية بالاضافة الى شح في الاستثمار من قبل الشركات الكبيرة التي لم تمول البحث والتطوير بشكل كاف ومتواصل. تم تنبيه رئيسة الوزراء الى أخطاء سياساتها في المحتوى وخاصة التوقيت. طلب صندوق النقد مباشرة منها التراجع عن برنامجها لأن الظروف العامة غير مناسبة، فرفضت. سقطت تراس في الانتخابات النيابية الأخيرة التي أوصلت حزب العمال الى الحكم. هكذا خسرت تراس الوزارة والنيابة، لكن من الممكن أن تعود في الظروف المناسبة.
كيف قررت رئيسة الوزراء وحكومتها مواجهة الأوضاع الاقتصادية الصعبة؟ مشروعها تخفيض الضرائب على دخل الأغنياء لدفعهم الى الاستثمار في الداخل. وضعت برنامجا للانفاق سخي دون تحديد مصادر التمويل بشكل واضح ومنطقي كما قررت تحرير الاقتصاد من العديد من الاجراءات والقيود. قررت عدم رفع النسبة الضريبية على أرباح الشركات الكبيرة من 19% الى 25% والمقررة سابقا لتمويل الانفاق الاجتماعي ومحاربة الفقر وذلك للحفاظ على الدعم السياسي والمالي للمستفيدين.
ماذا كانت النتيجة؟ انحدار الايرادات العامة وارتفاع الدين العام وبالتالي الرجوع ماليا الى الوراء في ظروف غير مناسبة. باختصار كان برنامجها غير واضح للعديد من المقترعين وممثلي الشعب. لم تسمع الرفض السياسي والشعبي لهذا البرنامج كما رفضت التراجع الا في أمور قليلة وغصبا عنها، مما سبب التباعد مع الشعب والخسارة القاسية.
Comments