ألفة السلامي*
منذ الإعلان عن الممر الاقتصادي الجديد خلال قمة العشرين الأخيرة في الهند لم تتوقف الأسئلة من المتابعين للشأن الدولي حول سر تبني الولايات المتحدة للمشروع وحماسها له. فمن المعروف أن المشروع يبدأ من الهند، وينتهي في أوروبا مرورا بالشرق الأوسط، وهو ممر له شقين؛ الشرقي ويربط الهند بالخليج العربي، والشمالي ويربط الخليج العربي بأوروبا. وهو مسار بعيد جدا عن الأراضي الأمريكية وحركتها التجارية ويصب في صالح شركائها بالشرق الأوسط وأوروبا أكثر مما يصب في صالحها. فماهي أهداف الممر وماهي التطلعات الأمريكية والغربية من ورائه، وماهي تداعياته الجيوسياسية والاقتصادية المحتملة وهل يغير قواعد اللعبة؟
لا شك أن طرق التجارة لعبت دورا محوريا في التحولات السياسية والاقتصادية بل والثقافية أيضا عبر التاريخ البشري. في هذا السياق، أشار المؤرخ البريطاني ومدير مركز الدراسات البيزنطية بجامعة أوكسفورد بيتر فرانكوبان في كتابه "طرق الحرير: تاريخ جديد للعالم" إلى الأهمية التاريخية لطرق التجارة، مؤكدا على دورها ليس فقط في تبادل السلع، ولكن أيضا في الأفكار والثقافات والتأثير. ويشبهها بـ "الجهاز العصبي للاقتصاد العالمي" وحجر الزاوية في لعبة الجغرافيا السياسية لقدرتها على التأثير على ميزان القوى باعتبارها تعمل "كقنوات للنفوذ الصلب والناعم معا" حيث تمكن من تأمين خطوط الإمداد الأساسية وتحفيز التقدم التكنولوجي، لكن نشر الأيديولوجيات والتأثير على الحضارات أيضا.
الصين كلمة السر
يجمعُ بعض المراقبين على أن الصين هي كلمة السر وراء الحماس الأمريكي لهذا المشروع حيث أصبح الحد من نفوذها هدفا استراتيجيا للسياسة الأمريكية خلال الحقبة القادمة وبأسرع ما يمكن، خاصة بعد التقدم الذي أحرزته بكين في تنفيذ مشروع الحزام والطريق منذ دشنته قبل عشر سنوات، وما يضيفه إلى رصيدها من نفوذ سياسي واقتصادي.
ليس ذلك فقط بل يرى مراقبون أن مخاوف واشنطن من تصاعد النفوذ الصيني تتجه إلى إمكانية بناء قواعد عسكرية للصين خلال إقامتها مشروعات البنية الأساسية لدى شركائها. علاوة على ذلك، زادت مخاوف واشنطن بشأن التطور في العلاقات السياسية والاقتصادية بين بكين ودول الشرق الأوسط وإفريقيا بعد لعبها دور الوساطة بنجاح في الاتفاق السعودي الإيراني. ومن هنا فإن أحد أبرز أهداف مشروع الممر الاقتصادي يكمن في مجابهة تصاعد النفوذ الصيني من خلال مشروع الحزام والطريق، وفي المقابل إعادة مكانة واشنطن ووجودها في الشرق الأوسط.
على جانب آخر، تحاول الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي تعزيز تواجدهما في افريقيا حيث أعلنتا أيضا خلال قمة العشرين الأخيرة عن "الممر العابر لأفريقيا" الذي يربط ميناء لوبيتو الأنغولي بالمناطق غير الساحلية في المناطق الغنية بالمعادن في جمهورية الكونغو الديمقراطية وزامبيا. هذه الخطوة جاءت أيضا بعد التوسع الصيني والروسي في أفريقيا ومن الواضح أن كلا المعسكرين يسعيان للحصول على القطعة الأكبر من الكعكة الأفريقية!
تقارب خليجي
يضاف إلى الأهداف السابقة من مبادرة الممر الاقتصادي تحريك المبادرات السياسية النشطة حاليا في الشرق الأوسط، وبرغبة إسرائيلية في دفع العلاقات بين تل أبيب وعدد من دول الخليج، مع الاستفادة من الأهمية المتزايدة لملف تأمين خطوط إمداد الطاقة بالنسبة لآسيا وأوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، في مقابل إحكام العزلة الغربية على إيران، والحد من تنامي دور طهران عبر ممر النقل بين الشمال والجنوب الذي ضخت فيه إيران وروسيا استثمارات كبيرة.
وهناك العديد من الإشارات في الآونة الأخيرة على تقارب الدول الأوروبية مع دول الخليج في أعقاب الأزمة الأوكرانية وتداعياتها على تدفق الطاقة إلى أوروبا. وفقا لتقرير وكالة الطاقة الدولية، يواجه الاتحاد الأوروبي نقصا قد يصل لحوالي 30 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي في العام الجاري 2023. وفي هذا الإطار يمكن تفسير إعلان إيطاليا مؤخرا إنهاء كامل وفوري لحظر الأسلحة المفروض على الإمارات العربية المتحدة. كذلك توقيع شركة الطاقة والبترول الفرنسية متعددة الجنسيات توتال إنرجي وشركة النفط والغاز الطبيعي السعودية المملوكة للدولة أرامكو عقدا بقيمة 11 مليار دولار. بعد ذلك، خففت ألمانيا بدورها موقفها من صادرات الأسلحة للمملكة العربية السعودية. كل تلك الأهداف المتشابكة تجعل من الممر الاقتصادي الجديد مشروعا يخدم مصالح هذه الأطراف.
لكن، يحذر مراقبون من أن الفوائد الاقتصادية قد لا تتوزع بشكل منصف بين جميع تلك الأطراف. ويوجهون انتقادات لاحتمال تسبب المشروع في "فخاخ ديون" لبعض الدول المشاركة وكونه أداة للتأثير الجيوسياسي للبعض بدلا من المنفعة المتبادلة التي يبحث عنها البعض الآخر.
مضاعفة الكلفة والوقت
غير أن عنصري الكلفة المضاعفة والبطء وما يتضمنهما من مخاطر التلف للبضائع يشكلان في الأمد القريب بحسب المراقبين أولوية ضمن تحديات نجاح هذا المشروع. ويشككون في إمكانية أن ينافس ممر الشحن المقترح بين الهند وأوروبا عبر الخليج وإسرائيل ممرات الشحن التقليدية الأخرى عبر البحر، مثل قناة السويس.
من المعروف أن إقتصاديات النقل تخضع لعناصر الكلفة والوقت وإذا افترضنا أن شركات الملاحة اختارت الطريق الجديد فإنها ستضطر لامحالة إلى تفريغ وتحميل البضائع عدة مرات، من خلال خط السكك الحديدية والخط البري والخط البحري، مما يجعل كلفة النقل أكبر وأبطأ من الطريق البحري. ويوضح ذلك الفريق مهاب مميش، مستشار رئيس الجمهورية ورئيس هيئة قناة السويس السابق، مشيرا في تصريحات تلفزيونية إلى أنّ المشروع "يمر بالبحر ثم يفرغ الحمولة، ويسير على سكة حديد، ثم عربات نقل بري ويفرغ على البر"؛ مضيفاً أنّ هذه "عملية مكلفة للغاية ومضيعة للوقت وضد اقتصاديات النقل البحري، ولا يوجد مقارنة مع قناة السويس التي تربط في غضون 11 ساعة البحر الأبيض بالأحمر وآسيا وأوروبا وكل موانئ العالم ".
العمليات اللوجستية والثورة التكنولوجية
لكن المتحمسين للمشروع يردون على هذا الطرح بأن تطوير العمليات اللوجستية والثورة التكنولوجية في منظومة النقل التي ستربط بين الدول كفيلة بتخفيض النفقات والوقت بين 30 و40% عن الطرق التقليدية. كما أن خفض تكاليف ممارسة الأعمال التجارية، وخلق فرص العمل، من شأنها تحفيز الدول والشركات للانخراط فيه بقوة وضخ استثمارات كبيرة. وربما تعرض الدول الغربية تمويلا كبيرا حتى تساهم في مستقبل أكثر اخضرارا من خلال الحد من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري. لكن هذه الحجج تطرح بدورها تحديا آخر يتعلق بالتمويل الذي يبقى شاغلا رئيسيا، خاصة وأنه لم يوضع الكثير على الورق فيما يتعلق بجانب تمويل المشروع؛ لم يتضمن ما تم الإعلان عنه حتى الآن سوى الإشارة لتوقعات باستثمارات سعودية تقترب من الـ 20 مليار دولار. وفي ضوء التباطؤ الاقتصادي الحالي وكلفة الحرب الأوكرانية فإن فرص تسريع وتيرة التمويل الغربي ضئيلة، خاصة إذا تم ربطها بمساعي توقيع اتفاقيات بين المملكة العربية السعودية وإسرائيل..
التحديات والمخاوف
تبقى هناك مخاوف أخرى يطرحها مراقبون تتعلق بعدم الاستقرار السياسي في الشرق الأوسط والذي أصبح سمة غالبة لما يزيد عن خمسة عقود. صحيح أن الفترة الأخيرة تشهد حالة من الزخم مع الصفقات والاتفاقيات التي توحي بما يشبه الاستقرار، ولكن طول عمر هذه المرحلة ومدى استدامتها مازال محل شكوك. بالإضافة لذلك، تظل بعض القضايا اللوجستية مثل سوء حالة السكك الحديدية في اليونان بسبب التضاريس الجبلية والصحاري الساخنة للأرض العربية تحديات إضافية لمشروع الممر الاقتصادي.
أخيرا، رغم الأهداف الطموحة والعوائق المحتملة لمشروع الممر الاقتصادي فإنه يطرح بلا شك تحديات على الطرق التقليدية في التجارة مما يستلزم المزيد من الآليات الحديثة في منظومتها من أجل الاستعداد للمنافسة سواء من حيث وضع حوافز سعرية أو حوافز للاستثمار وجذب الشركات العالمية، ناهيك عن إدخال تطوير على منظومة اللوجستيات الموجودة وتبني أحدث الأدوات التكنولوجية لاختصار وقت وكلفة النقل وذلك بهدف مواكبة المزايا التنافسية التي يعد بتوفيرها مشروع الممر الاقتصادي مثل كابل الكهرباء وكابل البيانات عالي السرعة وخط أنابيب الهيدروجين للاتصال الرقمي وتصدير الطاقة الخضراء. ولعل هذه الجوانب على أعلى قائمة اولويات هيئة قناة السويس في الفترة الأخيرة والتي شهدت مؤخرا توقيع اتفاقية مع مجموعة أي بي موللر ميرسك القابضة، وهي من أهم شركات النقل واللوجستيات العالمية العاملة في مصر، وتغطي الاتفاقية تعزيز التعاون في عدة مجالات في مقدمتها آليات التحول الأخضر وتوفير أحدث التقنيات التكنولوجية في التدريب ضمن استراتيجية عمل طموحة للإعلان عن قناة السويس "قناة خضراء" بحلول 2030.
- صحفية متخصصة في الشؤون الدولية
Comments