بقلم الدكتور لويس حبيقة
مع الحرب الأوكرانية تتغير طبيعة العلاقات الدولية، حيث الهم الأساسي يكمن في منع توسعها خاصة بعد القصف الصاروخي على بولندا. حسنا تمت معالجة الموضوع سياسيا منعا للانتقال ربما الى حرب نووية غير مضمونة النتائج. بين الهم الطبيعي قبل شباط 2022 الذي كان تحفيز النمو ونشر التنمية ومحاربة الفقر، أصبحنا نتطلع جميعا الى كيفية استمرار الحياة ليس فقط بسبب التضخم وانما بسبب امكانية حصول مواجهة بين روسيا وحلف شمال الأطلسي. انتقلت الأولويات العالمية للأسف من الاقتصاد الى الحرب والسلم في غياب أي دور فاعل للأمم المتحدة. كان يقال أيام الحرب الباردة، أن الأمم المتحدة تلعب الدور الذي يسمح لها بلعبه من قبل الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي. ها نحن نعود الى هذه الأجواء دون أن نتجاهل الدور الكبير الذي تلعبه الصين اليوم في كل جوانب الاقتصاد العالمي.
الحروب ليست فقط صراعا عسكريا وانما أيضا اقتصاديا وماليا حيث المهم تأمين الانفاق الكافي للتمويل والاستمرار والصمود. حجم التمويل مهم، لكن الأهم توزعه على كافة النشاطات العسكرية والأمنية. ما هو الهدف؟ كيف نصل اليه؟ هل الأموال موجودة وهل الخبرات كافية؟ هل المطلوب مساعدات خارجية في الارشاد والمال؟ تخطى حجم الانفاق العسكري العالمي في سنة 2021 ألفي مليار دولار، ومن المتوقع أن يزداد مستقبلا بسبب الحرب الأوكرانية والخوف من حصول حروب أخرى أكبر وأشمل.
يتم هذا الانفاق الكبير في وقت يحتاج العالم خلاله الى أبسط الأمور الحياتية من غذاء وطاقة وصحة وتعليم وغيره. يتوجه العالم عكس مصالح سكانه الثمانية مليارات شخص الذين يحتاجون الى كل شيء باستثناء الحروب والخسائر والموت. يحتاج العالم الى الحياة والى نقل الموازنات من الدفاع والهجوم الى كافة الحاجات الاجتماعية. لا ننسى أيضا أن الأموال غير متوافرة أيضا لمواجهة تردي المناخ وتأثيره على صحة وحياة الانسان حيث نعاني جميعا من الحرائق والفياضانات والخسائر الكبيرة في الغابات وغيرها. مؤتمر COP27 وان نجح على صعيد التمنيات والأفكار والتعهدات، الا أن الأموال لا تزال غير متوافرة خاصة في الدول التي تلوث أكثر بكثير من غيرها كالولايات المتحدة والصين والهند.
عودة الولايات المتحدة مع بايدن الى النشاطات البيئية وعودة البرازيل حديثا اليها يجعلاننا نتفاءل خيرا بالمحافظة على الغابات والثروات الطبيعية وخاصة "الأمازون" التي تعتبر رئة الكرة الأرضية. وعد الرئيس لولا المجتمع الدولي باستضافة قمة مناخ قريبا في الأمازون لوضع الضؤ على هذه الثروة الهائلة وضرورة الحفاظ عليها لمصلحة البشرية جمعاء.
تشير الدراسات الى أن من ينتصر في الحروب الطويلة هو من يملك القدرة المالية الأكبر، وهنا تتفوق روسيا على أوكرانيا من دون المساعدات الغربية السخية والسريعة والمتنوعة. الانفاق العسكري يساهم أحيانا في تعزيز الوضع الاقتصادي الداخلي حيث يتم الانفاق على كل ما يفيد ويدعم الحرب من أجور وسلع وخدمات لكن التوزيع ليس فاضلا بالضرورة لأنه يهدف الى تحقيق أهداف معينة. يقال أن الانفاق تحضيرا للحرب العالمية الثانية أخرج الولايات المتحدة من أزمة 1929 وغير هيكلية اقتصادها لفترات طويلة. لذا التحضيرات للحروب ممكن أن تكون مفيدة للاقتصاد مع الأمل طبعا ودائما بأن لا تحصل.
لتقييم الحروب من الناحية الاقتصادية، يجب النظر الى الأمور التالية مجتمعة:
أولا: الأوضاع الاقتصادية قبل الحرب، أي هل كانت الأوضاع المعيشية سببا في انطلاق المواجهات المدمرة؟ فالحرب يمكن أن تكسر أحيانا الحواجز التي تمنع التقدم الاقتصادي. يمكن للحروب أن توسع الأسواق وتغير الحاجات وبالتالي تتغير خريطة الانتاج. تبقى الحروب في كل حال آخر الوسائل التي يجب استعمالها لأي هدف اقتصادي.
ثانيا: أين تقع الحرب وهذا في غاية الأهمية. أفهمت الحرب الأوكرانية العالم أهمية الدولة في الاقتصاد العالمي. لولا تأثير الحرب على توافر وأسعار الطاقة والغذاء والأدوية الزراعية، ربما لما كنا شعرنا أو اهتمينا بها. تحصل حروب في أفريقيا وأسيا لسنوات وليس هنالك من يهتم أو يشعر بها وبالتالي تستمر لعقود بالرغم من الخسائر البشرية والمادية الهائلة. الثقل الاقتصادي الكبير لمنطقة روسيا اوكرانيا كان يجب أن تكون الدافع الأساسي لتجنب الحرب وهذا ما لم يحصل. تفاجأ العالم بالنتائج الاقتصادية السلبية للحرب المستمرة والتي وصلت الى كل منزل ومصنع في اوروبا والعالم. أين دور الأمم المتحدة؟ هل لعبت الدور المطلوب؟ هل كان التقصير مقصودا أم عفويا؟
ثالثا: يسبق الحروب تغيير كبير في توزع الموارد الداخلية البشرية والمادية استعدادا للمواجهة. يتغير الانتاج كما الاستهلاك قبل الحرب وبعدها وبالتالي يتأثر النمو على المدى البعيد. عندما تنتهي الحرب، يتغير الاقتصاد ليس فقط بسبب ضرورة تغطية الخسائر بل أيضا للبناء من جديد بطرق وركائز مختلفة. تسلط الحرب الأضواء على مساوئ الهيكلية الاقتصادية والقطاعية السابقة وتسمح بسد الفجوات ومعالجة النواقص لبناء اقتصادات أقوى وحديثة.
رابعا: لا تتشابه الحروب من نواحي الدمار والخسائر. هنالك عوامل تميز كل حرب أهمها مدتها، تكلفتها وكيفية تمويلها أي خاصة من الداخل أو الخارج أو الأثنين معا. للحروب نتائج كبيرة ليست فقط اقتصادية مالية وانما أيضا نفسية حيث تتأثر المجتمعات بالخسائر خاصة البشرية. هذه الخسائر والضحايا تبقى مؤلمة لفترات طويلة وربما دائمة. بعد الحرب ستقيم الدول كافة النتائج وكيفية تخفيف الخسائر اذا ما وقعت حروب مماثلة. سيتم التركيز على توزع الانتاج جغرافيا في العديد من السلع أهمها الطاقة والغذاء. بينت الحرب الأوكرانية خطورة اعتماد العالم على انتاج دولة واحدة أو دولتين وبالتالي ضرورة التنويع المستقبلي في الانتاج والتسويق. خريطة العالم الاقتصادية ستتغير حتما باتجاه مناطق أخرى وسلع جديدة في الطاقة وغيرها لأن العالم توجع وبعد الوجع الشفاء.
Comments