برنامج صندوق النقد

10/14/2021 - 11:21 AM

بيروت تايمز

 

 

بقلم الدكتور لويس حبيقة

 

سيبدأ لبنان عاجلا أم آجلا التفاوض مع صندوق النقد الدولي للخروج من الأزمة المالية الحالية والبدء بتنفيذ اصلاحات ادارية واقتصادية ومالية وغيرها تعيد الاقتصاد الى العافية. التفاوض ليس عقابا أو عيبا، لكنه حاجة وقرار وطني اذ يقف كل المانحين والمقرضين وراء صندوق النقد ولا بد وأن نفاوض بكل ثقة وجدية. التفاوض حاجة وواجب تجاه الشعب اللبناني الموجوع والجريح. الوفد الذي شكلته الحكومة للتفاوض يتمتع دون شك بالكفاءة الكافية للتفاوض بصوت واحد ولا بد وأن نكون ايجابيين ونأمل خيرا.

لبنان ليس الدولة الوحيدة في العالم التي اعتمدت أو تعتمد برنامج انقاذي متفق عليه مع الصندوق. وجد صندوق النقد اصلا لمساعدة الاقتصادات على الاصلاح في سبيل الاستقامة المالية. هنالك دولتان مهمتان، وعلى سبيل المثال، اعتمدتا برامج صندوق النقد وهما تركيا والبرازيل. ربما المثل التركي أهم للبنان بسبب القرب الجغرافي والذي يجعلنا الى حد بعيد نعاني من نفس المشاكل.

مع بداية القرن الحالي، كانت لتركيا والبرازيل مشاكل اقتصادية كبرى فرضت عليهما اعتماد برنامج لكل منها، البرازيل في آخر 1999 وتركيا في أول سنة 2000. ماذا كانت تلك المشاكل الكبيرة؟ نسب تضخم مرتفعة، مضاربات كبيرة على النقد، عدم استطاعة الاقتراض لتمويل الانفاق العام. تحسنت الأوضاع مع التوقيع على الاتفاقية مع الصندوق لكن عادت الأمور لتسؤ بسبب التباطؤ في تطبيق الاصلاحات. لم تستطع الدولتان تخفيض العجز المالي كما تخفيض نمو الكتلة النقدية، بالاضافة الى مشاكل مصرفية كبرى خاصة في تركيا. كان هدف الحكومة التركية انقاذ المصارف وهذا هو حالنا في لبنان، والأهم حاولت الحكومة التركية اقناع الأسواق انها جدية في تنفيذ الاصلاحات والقيام بالتضحيات المطلوبة وهذا هو دور حكومتنا اليوم.

نجحت الحكومة التركية في تنفيذ اصلاحات في الهيكلية الاقتصادية للدولة وساهم برنامج الصندوق والأموال التي رافقته في تخفيض نسبة التضخم واعادة البلد الى النمو الاقتصادي. اعتمد سعر صرف واحد وتحققت اصلاحات جدية في النظام المصرفي. ما هي الدروس الأساسية لاعتماد برنامج اصلاحي مع صندوق النقد في الدولتين التركية والبرازيلية؟

أولا: التقشف المالي والنقدي الجدي والمدروس يؤدي الى تحقيق نمو اقتصادي. الاصلاحات الاقتصادية المناسبة تحسن النتائج الاقتصادية لمصلحة المواطن.

ثانيا: ساهم برنامج صندوق النقد في منع تفاقم الأزمة في الدولتين وبالتالي تحقق النمو بأسرع مما كان يعتقد. طبعا الحكومات الجدية والقوية هي ضرورية في ظروف دقيقة كهذه.

ثالثا: كل ما عجلت الحكومة في تنفيذ الاصلاحات المتفق عليها كلما زادت الفوائد على الواطن والاقتصاد ككل. المهم أن تبدأ الاصلاحات للفجوات الكبيرة كالكهرباء والانفاق والبنية التحتية وتخفيف حجم القطاع العام وغيرها من الأمور التي تنزف المجتمع اللبناني واقتصاده. كلما تأخر تنفيذ الاصلاحات، كلما تدنت الفوائد منها. يجب الاقتناع بضرورات التنفيذ ووضع كل الجهود في سبيل ذلك.

رابعا: من الضروري التنبه الى أن النتائج يمكن أن تكون بطيئة وبالتالي المطلوب الصبر والتنبه الى كافة المخاطر الممكنة. في الدول التي تعاني من تضخم قوي ونسب دين عام مرتفعة، تأتي النتائج الايجابية بتمهل وليست هنالك حلول سحرية سريعة.

كيف يمكن تقييم الأوضاع التركية والبرازيلية بالرغم من اصابة الدولتين جديا بأزمة الكورونا التي كانت لها تأثيرات سلبية كبيرة على الصحة والاقتصاد. موقع البرازيل قوي في أميركا اللاتينية ولها علاقات ايجابية مميزة مع معظم دول العالم بالرغم من بعض التشنجات التي حصلت مع فرنسا. أما تركيا فموقعها متردد أي ما زال غير واضح لها. هل هي دولة أسيوية أو أوروبية تلعب دورا أساسيا فيما يخص الهجرة غير الشرعية الى اوروبا؟ تحاول منذ سنوات الدخول الى الوحدة الأوروبية لكن الموانع ظاهرة وتطال الثقافة والاقتصاد والسياسة.

تحاول تركيا تقوية موقعها ضمن مجموعة العشرين، ولها نفوذ قوي في المنطقة بالرغم من أن ذكريات الماضي لا تصب في مصلحتها في أكثرية الأحيان. تعاني تركيا كما نحن عربيا من نظريات الموأمرات علينا، واننا بريئين من كل المساوئ وأوضاعنا كانت لتكون أفضل لولا التآمر في كل شيء. هل تركت تركيا نهائيا عقيدة مصطفى كمال أتاترك أم أن ما يحصل اليوم هو اجازة بانتظار العودة السليمة الى العقيدة الأتاتركية. قال أتاترك يوما "كم هو سعيد الشخص الذي يقول انه تركي". لا شك ان الاقتصاد التركي واسع وقابل للاستثمارات الكبيرة شرط أن يترسخا الاستقرار والاعتدال.

نما الاقتصاد التركي ب 7,5% في سنة 2017 ومن المتوقع أن تكون النسبة حوالي 5,8% هذه السنة. ما زال التضخم قويا في حدود 16% ويجب السيطرة عليه تدريجيا. أما البطالة في حدود 13% فتشكل ثقلا كبيرا على الوضع المعيشي. نسبة الدين العام من الناتج 40% وهي معتدلة جدا بكل المعايير. اكتمال التعافي التركي يرتكز على عاملين كبيرين هما محاربة الفساد الذي يظهر انه ما زال مرتفعا وتدفق الاستثمارات الخارجية المترددة بسبب السياسة والبعد عن توصيات اتاترك مؤسس الدولة الحديثة. برنامج صندوق النقد شكل الدفعة الأولى للاصلاح لكنه لا يمكن أن يكون العلاج الكامل اذا لم تكن هنالك قناعات داخلية كبيرة بجدوى البرنامج، وهذا ما يجب أن يحصل في لبنان كي ننجح في التفاوض أولا والتنفيذ ثانيا.

أما البرازيل، من المتوقع أن تكون نسبة النمو 5,3% هذه السنة وهذه نتيجة ممتازة لدولة عملاقة فيها 210 مليون شخص. نسبة الدين العام من الناتج في حدود 80% ويسببه العجز المالي المرتفع. نسبة البطالة 13% وما زالت مرتفعة بالرغم من الاستثمارات الأجنبية التي تبلغ سنويا معدل 50 مليار دولار. أما الاحتياطي النقدي، فكان 356 مليار دولار في 2020 ومن المتوقع أن يبقى في هذه الحدود في السنوات المقبلة. تعاني البرازيل تاريخيا من فجوة دخل وثروة مرتفعة جدا مما يجعل الفقراء في أدنى الدرجات المتعارف عليها دوليا. المهم جدا تحقيق نمو مرتفع، لكن الأهم أن يستفيد منه الفقراء كي يخرجوا من الظلم المعيشي الحاصل فتتحسن الأوضاع الأمنية والاجتماعية والحياتية.

كي ينجح لبنان في اعتماد وتطبيق برنامج صندوق النقد يجب أن تتوافر العوامل التالية مجتمعة: الاقتناع الرسمي والشعبي بضرورة التفاوض وبمحتوى الاتفاق، السرعة في تنفيذ ما يتفق عليه لأن عامل الوقت هو في غاية الأهمية، الاصلاحات ضرورية جدا مع صندوق النقد وبدونه اذ لا يمكننا ان نعيش من دون كهرباء ومياه واتصالات حديثة وغيرها.

 

 

Share

Comments

There are no comments for this article yet. Be the first to comment now!

Add your comment