الكورونا واقتصاد الفنون

04/08/2020 - 10:26 AM

Prestige Jewelry

 

بقلم الدكتور لويس حبيقة

للفنون أوجه مختلفة، اذ هنالك فوارق كبيرة بين الرسم مثلا والموسيقى. لذا من الصعب التعريف بالفن، حيث حصر الموضوع في غاية الصعوبة. يمكن القول أن الفن هو ما ترغب المجتمعات بتسميته كذلك. فن في مجتمع ما يمكن أن لا يعتبر فنا في مجتمع آخر لأسباب ثقافية وتاريخية وعملية ومادية. هنالك فوارق كبرى أيضا بين المبدعين الحاليين أو القدامى المتوفين.

دراسة الفنون من الناحية الاقتصادية صعبة، اذ ترتبط الى حد بعيد بمدى تعلق الاقتصادي بالفن وقدرته على الحفاظ على الموضوعية عندما يحب أو يكره فن ما أو منتج معين. العديد من الاقتصاديين الذين يدرسون الفنون يكونون من الذين يجمعون هذه الأصول الفريدة، وبالتالي الحافز على الشراء والحفظ يتخطى الموضوع المالي ليصل الى علم النفس والاجتماع.

تأتي الكورونا لتصيب عالم الفن حيث ألغي العديد من المعارض وأقفل العديد من المتاحف بسبب عدم القدرة على التجمع كما بسبب سيطرة الوضع الصحي العالمي على اهتمامات الناس. لكن الارتباط بالفن لا بد وأن يستمر حتى في ظروف الأزمات لأنه ارتباط بالحياة ونوعيتها الجيدة. لاقتصاد الفن خصائص محددة كالآتي:

أولا: من المستحيل تنشيط الفنون في دولة ما من دون مساهمة بل مساعدة القطاع العام ماديا ومعنويا وبشريا. هل يمكن انشاء وتطوير متاحف وطنية مثلا بتمويل من القطاع الخاص فقط أو عبر شراء بطاقات الدخول فقط؟ المتاحف الكبرى في العالم تمولها الدولة جزئيا أو كليا بالإضافة طبعا الى متبرعين. تدعم الدولة الفنون والآداب مباشرة وماليا، كما بشكل غير مباشر عبر الحسومات الضريبية للمتبرعين. يجب على كل دولة تشجيع الأفراد والشركات على التبرع للفنون التي تغذي الفكر الوطني وتشكل ثروة ثقافية كبرى تنتقل من جيل الى آخر. الفن هو هوية والحفاظ عليه يدخل في صلب الأمن القومي. لا يمكن للكورونا أن تقتل الهوية.

ثانيا: هنالك معارض للفنون تنظم سنويا عموما في الدول المتقدمة ويزورها المهتمون. تعرض منتجات الفنانين في الرسم والنحت وغيرهما أمام المهتمين بالشراء أو الاستئجار من قبل المتاحف أو المؤسسات الثقافية والتعليمية. تأخذ هذه التجمعات أشهرا وربما سنوات من التحضير نظرا لأهميتها وللتأثير التي تقوم به على الثقافة العالمية. شعبية هذه التجمعات ترتفع بسرعة من سنة الى أخرى. الكورونا تجمد هذه العلاقة لكن لا يمكن لها أن تقطعها.

ثالثا: أهمل الاقتصاديون عبر الزمن تأثير الفنون على النمو الاقتصادي. كانوا ينظرون الى الفنون كقوة ثقافية تؤثر على العقل دون أن ينعكس ذلك على المادة والنمو. مؤخرا، أصبح الفن قسما من العلوم الاقتصادية من نواحي الطلب والعرض والأسعار. مشكلة الفنون أن أسواقها ليست شفافة وسائلة كأسواق المواد الأولية مثلا والسلع العادية. لا يمكن للاقتصادي أن يميز بين الفن الجيد والفن السيء، فهي ليست من اختصاصه بل هو عاجز عن التمييز علميا ومهنيا فكيف يسعر التحفة الفنية؟

رابعا: من الأفضل معالجة اقتصاد الفنون بربطه بالتصرفات الانسانية والمؤسساتية. هل يتصرف طالب الفن بعقلانية أي هل يتم شراء التحف الفنية بدراسة كافة ميزات التحفة كما يتم مثلا شراء سهم في البورصة أو قطعة أرض أو شقة سكنية أو غيرها؟ هل يتم تقييم التحفة الفنية كما تقيم الشقة السكنية أم أن العامل النفسي هو المسيطر والضاغط وبالتالي الشق العلمي في سوق الفن هو قليل أو هامشي؟

دراسة أسواق الفنون اقتصاديا يجب أن تعالج مواضيع الطلب والعرض والأسعار وبالتالي يكون هنالك توازن في السوق أو لا يكون؟

أولا: من يطلب هو المواطن العادي الهاوي للتحف والانتاج الثقافي كما الشركة التي تعتبر اليوم أن حصولها على تحف وعرضها في مقراتها يحسن صورة الشركة بل يجعلها أكثر انسانية وثقافة وبالتالي يدخل الفن ضمن الاستراتيجية التسويقية. هنالك المتاحف التي تشتري للعرض وبالتالي تحول التحفة من ملكية خاصة الى عامة. مشكلة السعر تكمن في ارتباطه برغبة الطالب التي يمكن أن تتغير من يوم للآخر. تقييم سعر تحفة أو رسم ليس علميا كتقييم برميل نفط مثلا. هنالك دور كبير لهوية الفنان أو المؤلف التي لها تأثير كبير على السعر حتى أهم من المنتج. أسواق الفن ليست دقيقة أو علمية كأسواق السلع الغذائية وبالتالي تحير الاقتصاديين.

ان دخول الاقتصاد الى الفن يزداد بسبب رغبة وحاجة الفريقين الى تنظيم السوق ومنع الاستغلال أو الغش أو السرقة. المهم أن تبقى الثروة الفنية الوطنية داخل الوطن ولا يجري سلبها كما حصل أيام الاستعمار. نرى أن العديد من المتاحف الغربية يحتوي على ثروة فنية مسلوبة من المستعمرات بينها من دولنا العربية. لا شك أن للمزادات العلنية دورا كبيرا في ايصال السلع الى من يريدها لأن السعر السوقي عموما مجهول وبالتالي تقنيات المزادات هي في محلها.

ثانيا: من ناحية العرض، يختلف الموضوع تبعا لهوية الفن والفنان خاصة اذا كان حيا أو متوفيا كما لطبيعة السلعة أي أصلية أو منسوخة. عرض تحفة فنية أو رسم مختلف جدا عن عرض أغنية ومسرحية. هنالك تكلفة التحضير التي تختلف لأن المنتجين شخص واحد في الرسم مثلا وفريق كبير في مسرحية أو فيلم سينمائي. التكلفة تختلف كليا حتى فيما بين التحف نفسها، أكانت نحتا أو رسما أو تصويرا أو غيرها. أذا كان الفنان حيا أو ميتا، العرض يختلف لاستحالة الانتاج الجديد في حالة الموت وقد رأينا رسوما تباع بمئات ملايين الدولارات لرسامين راحلين.

المضحك المبكي هو أن مؤلفي هذه الرسوم الباهظة عاشوا في معظمهم فقراء خلال حياتهم بينما يباع انتاجهم بملايين الدولارات. أما الفرق بين الأصل والنسخة فهو شاسع في الرسم والنحت مثلا، وربما أقل أهمية في الموسيقى ونحن نتكلم هنا عن النسخ الشرعي وليس السوق السوداء.  في هذه الأيام يساهم القطاع العام في العديد من الفنون أي مساعدة القطاع الخاص على الانتاج والاستمرار في المسرحيات والأعمال الكبيرة التي ليس سهلا انتاجها بمفرده.

ثالثا: في الأسعار حيث عمليات العرض والطلب دقيقة جدا خاصة عندما يكون العرض عاموديا في حال حصل الرسم من فنان متوف. شفافية الأسواق صعبة في قطاع الفنون وهذا ما يواجه عموما قسم الجمارك في تطبيق تعريفة على التحفة المستوردة أي يجهل سعرها الحقيقي وليست عنده الكفاءة للتقييم. تلجأ الجمارك الى الخبراء الذين يختلفون أحيانا فيما بينهم حول القيمة السوقية للسلعة وهذا لا يحصل مثلا في أسواق السيارات حيث القيمة معروفة في معظم الأحيان. جهل الأسعار من قبل عملاء السوق يجعل الوصول الى التوازن في أسواق الفنون صعبا جدا. يكون هنالك عموما فائض في العرض أو الطلب لا يمكن معالجته بسهولة وسرعة.

أن الانفاق الخاص على الفن يتغير تبعا للقوانين والأوضاع الاقتصادية. هنالك أفضلية في المجتمعات للغذاء والسكن والصحة والتعليم وتأتي الفنون بعدها، تماما كما يحصل اليوم مع الكورونا. حتى في ايطاليا دولة الفن والفنون والفنانين، نسبة الانفاق الخاص على الفن انحدرت، هذا قبل كارثة الكورونا فكيف اليوم. عموما يحل الانفاق العام مكان الخاص عندما يتعثر الأنتاج.

نرى أيضا أن الانفاق الخاص يتغير بين قسم من الفنون وآخر، أي هنالك موجات تعم الأسواق وبالتالي ترتفع جاذبية فن مقارنة بآخر. اهتمام الاقتصاد بالفن سيعزز دوره وينظم سوقه ويجذب اليه كل الناس وليس الأغنياء فقط. شعبية الفنون مهمة اذ تدخل اليوم في البرامج المدرسية والجامعية ولم يعد مسموحا للانسان أن يكون جاهلا للموسيقى والرسم والنحت والمسرح. الفن يقرب العالم والاقتصاد يجعل الفنون في متناول الطبقات الوسطى. لا شك أن الكورونا ستسبب الأذية للفن في الطلب كما في العرض بسبب توجه الموازنات العامة نحو حاجات انسانية عاجلة.

 

 

Share

Comments

There are no comments for this article yet. Be the first to comment now!

Add your comment