الإقتصاد الإسلامي: إرساء للحوكمة الرشيدة ومكافحة للفساد المالي

03/31/2020 - 11:53 AM

Orange County Health Care Agency

 

فؤاد الصباغ

على الرغم من تفرع العلوم الإقتصادية إلي العديد من الإختصاصات منها الإقتصاد النقدي، المالي، البنكي، الجزئي والكلي، الإقتصاد الأخضر والرقمي، إلا أنه هناك إقتصاد حيوي يعتبر في أهدافه ومحتواه مضادا حيويا للأزمات المالية ومحققا للإستقرار الإقتصادي والإزدهار الإجتماعي.

فذلك الإقتصاد الذي يعتبر غائبا تماما في التطبيق علي أرض الواقع في بعض الدول العربية الإسلامية ولو أنه تم إعتماده بصفة محدودة ومحتشمة في فترة حكم الحركات الإسلامية علي غرار الإنتشار الواسع للبنوك الإسلامية في بعض بلدان شمال إفريقيا. أيضا الإنطلاق الفعلي في طور خطواته الأولي عبر إعتماد مبادئ المالية الإسلامية في وزارات المالية منها طرح صكوك إسلامية أو تقليص الإعتماد بالمقايضة بالرباء المالي.

فالإقتصاد الإسلامي يمثل اليوم البديل الرئيسي للإقتصاديات الوطنية التي أضحت مؤخرا تعاني من تراكم للعجز المالي في ميزانيتها العمومية وتفاقم مديونيتها الخارجية. إذ لتحديد مفهوم ذلك الإقتصاد يجب وضع الإطار الرئيسي لأهدافه ونتائجه وذلك كمضاد حقيقي للأزمات المالية وقادر بالفعل علي إرساء الحوكمة الرشيدة ومكافحة الفساد المالي المتراكم منذ سنين طويلة.

أنواع الأزمات المالية

إن الأزمات المالية تعتبر مثل الفيروس القاتل القادر علي إستدراج الإقتصاد الوطني إلي الهاوية وإصابته بشلل جزئي أوكلي علي المدي القصير أو الطويل. فالأزمات تصنف في خانة أمراض العضال التي تصيب الإقتصاديات الوطنية للدول بشكل رهيب وغريب وهي تأتي، إما في دورة إقتصادية عادية بعد كل مدة عشرة سنوات من تصاعد للنمو الإقتصادي والإنتاجية ثم إلي النزول وتباطؤ النمو والإنتاجية لتصل إلي نقطة الأزمة القاتلة. أما بعض المنظرين الإقتصاديين فهم مختلفون في تحديد أنواع تلك الأزمات منهم المختص بدراسة أزمات العملة وأجيالها التي وصلت إلي حد الآن الجيل الرابع بحيث يتم تحديد ذلك المفهوم عبر ما يعرف بـ  "Speculative attacks ".

فتضرر العملة المحلية يفسر بعدة عوامل منها داخلية أو خارجية بحيث تصل إلي الحضيض مقابل سلة العملات الأجنبية، وذلك إما نتيجة لإرتفاع التضخم المالي والأسعار أو مضاربة المستثمرين في الأسواق المالية مما تنتج تلك الفقاعة خاصة في ظل تذبذب المعلومات والغياب التام للثقة. أيضا نذكر الأزمات البنكية والتي تعتبر الأخطر نظرا لأنها تصيب العديد من البنوك بالإفلاس والغلق التام عبر سحب الودائع بصفة مفاجئة وهذا ما يؤثر مباشرة علي الأوضاع الإقتصادية الداخلية وهي ما تعرف ب “Bank run”.

فالأزمات البنكية قادرة علي تعطيل دواليب الدولة بالكامل نظرا لإرتباطها "ببنك البنوك" أي البنوك المركزية وخاصة بالسياسة النقدية المحلية التي تراهن في بعض الدول علي صرف العملة وبعض الدول الأخرى علي القاعدة النقدية وتقليص التضخم أو إستقرار الأسعار. أما بقية الأزمات مثل أزمات البورصة والديون السيادية والرهن العقاري فهي في مجملها ذات طابع مالي، إما في الأسواق المالية أولتراكم الديون والعجز في إستخلاص الدين في موعده. إجمالا، فهذه الأنواع من الأزمات تنتج مباشرة من رحم سياسات التحرر المالي والخصخصة والمضاربة بالأسواق المالية وتحرير الأسعار بحيث يصبح رأس المال "جبان" ويتأثر بأبسط المتغيرات والمعلومات لأن الرغبة في زيادة الربح هي السائدة بين المستثمرين في تلك الأسواق.

أسباب الأزمات المالية

هنا يكمن مربط الفرس، فيمكن إبراز الدور الهام للإقتصاد الإسلامي القادر علي إزالة العوائق وتجاوز تلك الأزمات بسلاسة نظرا لإعتماده علي قواعد تحد من الفساد المالي وتحقق الحوكمة الرشيدة متجاوزا بذلك ضغوطات الأسواق المالية، لتكون بذلك الموازي الحقيقي لذلك الإقتصاد الوطني التقليدي والمساهم الرئيسي لتغطية تلك الإختلالات عبر صمود البنوك الإسلامية في وجه مختلف الأزمات المالية.

إن الإقتصاد الرأسمالي وإعتماده لسياسات التحرر والخصخصة تعتبر في مجملها هي المسبب الأول والرئيسي لنشأة تلك الأزمات المالية المتتالية وتواصلها بصفة متقطعة إلي حتى الآن أوفي المستقبل. أما للتعمق أكثر فأكثر في الأسباب الأخري والتي هي متفرعة ومتنوعة منها بسبب الإنسحاب المفاجئ لرؤوس الأموال والإستثمارات الأجنبية المباشرة عبر سحب مفاجئ شامل وكامل للودائع ومغادرة تلك الدول نظرا لتضرر إقتصادها بسبب تلك الأزمات السياسية أو الإقتصادية خاصة منها إرتفاع نسب التضخم المالي وقلة الإنتاجية والربح وعدم الإستقرار الإجتماعي. أيضا لتضرر العملات المحلية مقابل سلة العملات الأجنبية في ظل إرتفاع متواصل للتضخم المالي ونزيف النقص في الإحتياطي المركزي والإنخفاض الحاد في نسبة النموالإقتصادي.

فالعدوى تنتشر سريعا بين الدول خاصة منها المندمجة في فضاء إقليمي واحد تربطهم قنوات مالية وتجارية مشتركة على غرار منطقة المنظومة المالية والنقدية للإتحاد الأوروبي أو دول جنوب شرق آسيا بحيث يعتبر ذلك الوباء متحول عبر تلك القنوات من خلال المعاملات المالية والمبادلات التجارية اليومية. أما الأهم هنا في أسباب الأزمات المالية نذكر غياب الحوكمة الرشيدة في القطاعات الحيوية للدولة أوفي القطاع الخاص منها بالأساس المؤسسات البنكية ومنظومة الفاسد من رجال المال والأعمال التي تشكل أخطبوط قاتل للإقتصاديات الوطنية التي تعاني من هشاشة هيكلية أو ضعف للقطاع الخاص.

فالفساد المالي ينخر الإقتصاد مثل السرطان بحيث يتسبب في شلل كلي خاصة إذا تراكمت الديون لأولئك المستثمرين الفاسدين مع عدم قدرتهم علي إسترجاع أقساط القروض أو نظرا للرهن المكتسب لدي البنك الغير قادر علي تسديد الدين العام مما تسجل بالنتيجة خسارة علي ميزان تلك البنوك وبالتالي على الحكومة بطريقة غير مباشرة نظرا لأن البنوك المركزية هي الموزعة للسيولة المالية علي البنوك الخاصة والعامة.

الإصلاحات الهيكلية والمراقبة المصرفية

الإصلاحات الهيكلية تنطلق من بوابة تطهير البيت الداخلي للإقتصاد الوطني داخل جميع البنوك والمؤسسات العامة والخاصة. فالإصلاح ينطلق عبر تقوية القطاع الخاص حتى يكون قادر علي مجابهة المتغيرات والأزمات مع ضبط قواعد رئاسة مجلس الإدارة ولإرساء الديمقراطية وتوفير المعلومات في كنف من الشفافية والمصداقية. كذلك تدخل "اليد الخفية" للدولة لتعديل إنحراف تلك الأسواق الخاصة عن مسارها وإنجرافها نحو الهاوية لأن القطاع الخاص أوهن من بيت العنكبوت.

فالأسواق المالية حساسة جدا وتتأثر بأبسط المعلومات أو الإضطرابات والتجربة أثبتت أن أي خبر إعلامي قادر علي تغيير ألوان أسهمها من الأخضر إلي الأحمر في ثوان معدودة مثل لمحة برق. فهنا يجب توفير مناخ من تبادل للمعلومات في ظروف جيدة وتعزيز الثقة بين المستثمرين والمضاربين والحفاظ علي مناخ الإستقرار المالي. كذلك يجب إعتماد مفهوم التجديد والتطوير داخل المؤسسات مع التحكم في التكنولوجيات والتقنيات الحديثة ووضع مخططات إستشرافية ناجحة وناجعة في محتواها وأهدافها علي المدي البعيد. أما المراقبة المصرفية فهي تعتبر اليوم الشغل الشاغل للمنظمات العالمية والمؤسسات المالية الدولية المانحة منها صندوق النقد الدولي المكلف بالحفاظ على الإستقرار المالي العالمي أو البنك الدولي المكلف بتحقيق التنمية المستدامة.

بالإضافة إلي ذلك نذكر اللجان المختصة بالمراقبة المصرفية منها العالمية المشكلة من أجل التثبت في مداخيل ومصاريف البنوك من خلال تحديد آليات وبنود تلتزم بها جميع البنوك حتي لا تقع في فخ التحيل من قبل المستثمرين أو الإنجراف نحوالإفلاس. فالودائع المصرفية المتأتية عبر الإدخار والتداول اليومي للرواتب الشهرية وغيرها فهي تعتبر ودائع قابلة لتمويل الإستثمار. بالتالي يجب وضع قواعد توازي بين الإدخار والإستثمار وتضمن في حد ذاتها الإستقرار والتوازن في الميزانية العامة للبنوك. فأفضل طريقة للمحافظة علي الإصلاحات الهيكلية والمراقبة المصرفية تختزل ببساطة في التقييد بمبادئ الإقتصاد الإسلامي من أجل إرساء الحوكمة الرشيدة ومكافحة الفساد المالي.

فالمالية الإسلامية أثبتت تجربتها مدى نجاحها ولوهي مازالت محتشمة عمليا في بعض البلدان الإسلامية، خاصة علي مستوي قدرتها لمجابهة أزمات سوق رؤوس الأموال بحيث أضحت اليوم تصنف كمضاد حيوي للأزمات المالية نظرا لعدم إستعمالها "للرباء المالي" في منظومتها المالية والمصرفية. أيضا نظرا لتقليصها من هيمنة توحش نظام الرأسمالية في الأسواق المالية بحيث تضمن إطار من المصداقية والشفافية أمام جميع المستثمرين وتساهم في إرساء الثقة من أجل المزيد من الإدخار والإستثمار.

التنمية الإقتصادية

إن التنمية الإقتصادية في مفهومها الكلي تعني تسخير المكاسب والطاقات الوطنية وتحويلها إلي نواة قوة إجمالية قادرة علي تنمية البنية التحتية وغيرها من أنواع التنمية وخاصة منها التنمية المستدامة التي تراهن علي الإقتصاد الأخضر والحفاظ علي بيئة سليمة خالية من السموم الغازية. أما في المقابل يعتبر النمو الإقتصادي في مفهومه الجزئي هوتراكم للثروات الوطنية منها البشرية والتقنية والفيزيائية والتكنولوجية بحيث يتراكم الناتج المحلي الإجمالي السنوي "الحقيقي" ليكون بالنتيجة محفزا للتنمية الإقتصادية الكلية.

فهنا يمكن وضع المفاهيم في إطارها بين تحقيق التوازن بين التنمية والنمو الإقتصادي في ظل تطبيق نظريات الإقتصاد الإسلامي الحديث الناجع في محتواه وأهدافه وقادر علي تحقيق تلك الحوكمة الرشيدة الموعودة علي أرض الواقع والتخلص من المفسدين في الأرض من رجال مال وأعمال فاسدين وتقويض الحرية المطلقة للنظام الرأسمالي المتوحش وسياساته التعيسة علي البلاد والعباد. بالنتيجة تتحقق التنمية الشاملة في صلب ذلك الإقتصاد الإسلامي الضامن الرئيسي لإستقرار الأوضاع الإقتصادية والإجتماعية ولإزدهار الشعوب العربية.

 

* كاتب تونسي و باحث اقتصادي دولي

 

 

Share

Comments

There are no comments for this article yet. Be the first to comment now!

Add your comment